كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأعجب من هذا: الاستدلال على الإباحة بأن الله خلق الصوت الطيب وهو زيادة نعمة منه لصاحبه.
فيقال: والصورة الحسنة الجميلة أليست زيادة في النعمة والله خالقها ومعطي حسنها أفيدل ذلك على إباحة التمتع بها والالتذاذ على الإطلاق بها؟.
وهل هذا إلا مذهب أهل الإباحة الجارين مع رسوم الطبيعة؟
وهل في ذم الله لصوت الحمار ما يدل على إباحة الأصوات المطربات بالنغمات الموزونات والألحان اللذيذات من الصور المستحسنات بأنواع القصائد المنغمات بالدفوف والشبابات؟!.
وأعجب من هذا: الاستدلال بسماع أهل الجنة وما أجدر صاحبه أن يستدل على إباحة الخمر بأن في الجنة خمرا وعلى حل لباس الحرير بأن لباس أهلها حرير وعلى حل أواني الذهب والفضة والتحلي بهما للرجال: بكون ذلك ثابتا وجود النعيم به في الجنة.
فإن قال: قد قام الدليل على تحريم هذا ولم يقم على تحريم السماع.
قيل: هذا استدلال آخر غير الاستدلال بإباحته لأهل الجنة فعلم أن استدلالكم بإباحته لأهل الجنة استدلال باطل لا يرضى به محصل.
وأما قولكم لم يقم دليل على تحريم السماع.
فيقال لك: أي السماعات تعني؟ وأي المسموعات تريد؟ فالسماعات والمسموعات: منها المحرم والمكروه والمباح والواجب والمستحب فعين نوعا يقع الكلام فيه نفيا وإثباتا.
فإن قلت: سماع القصائد قيل لك: أي القصائد تعني؟ ما مدح به الله ورسوله ودينه وكتابه وهجي به أعداؤه؟.
فهذه لم يزل المسلمون يروونها ويسمعونها ويتدارسونها وهي التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأثاب عليها وحرض حسانا عليها وهي التي غرت أصحاب السماع الشيطاني فقالوا: تلك قصائد وسماعنا قصائد فنعم إذن والسنة كلام والبدعة كلام والتسبيح كلام والغيبة كلام والدعاء كلام والقذف كلام ولكن هل سمع رسول الله وأصحابه سماعكم هذا الشيطاني المشتمل على أكثر من مفسدة مذكورة في غير هذا الموضع وقد أشرنا فيما تقدم إلى بعضها؟.
ونظير هذا: ما غرهم من استحسانه الصوت الحسن بالقرآن وأذنه له وإذنه فيه ومحبة الله له.
فنقلوا هذا الاستحسان إلى صوت النسوان والمردان وغيرهم بالغناء المقرون بالمعازف والشاهد وذكر القد والنهد والخصر ووصف العيون وفعلها والشعر الأسود ومحاسن الشباب وتوريد الخدود وذكر الوصل والصد والتجني والهجران والعتاب والاستعطاف والاشتياق والقلق والفراق وما جرى هذا المجرى مما هو أفسد للقلب من شرب الخمر بما لا نسبة بينهما وأي نسبة لمفسدة سكر يوم ونحوه إلى سكرة العشق التي لايستفيق الدهر صاحبها إلا في عسكر الهالكين سليبا حريبا وأسيرا قتيلا؟
وهل تقاس سكرة الشراب بسكرة الأرواح بالسماع وهل يظن بحكيم أن يحرم سكرا لمفسدة فيه معلومة ويبيح سكرا مفسدته أضعاف أضعاف مفسدة الشراب حاشا أحكم الحاكمين.
فإن نازعوا في سكر السماع وتأثيره في العقول والأرواح: خرجوا عن الذوق والحس وظهرت مكابرة القوم فكيف يحمي الطبيب المريض عما يشوش عليه صحته ويبيح له مافيه أعظم السقم والمنصف يعلم أنه لا نسبة بين سقم الأرواح بسكر الشراب وسقمها بسكر السماع وكلامنا مع واجد لا فاقد فهو المقصود بالخطاب.
وأعجب من هذا: استدلالكم على إباحة السماع المركب مما ذكرنا من الهيئة الاجتماعية بغناء بنيتين صغيرتين دون البلوغ عند امرأة صبية في يوم عيد وفرح بأبيات من أبيات العرب في وصف الشجاعة والحروب ومكارم الأخلاق والشيم فأين هذا من هذا؟.
والعجب أن هذا الحديث من أكبر الحجج عليهم فإن الصديق الأكبر رضي الله عنه سمى ذلك: مزمورا من مزامير الشيطان وأقره رسول الله على هذه التسمية ورخص فيه لجويريتين غير مكلفتين ولا مفسدة في إنشادهما ولا إستماعهما أفيدل هذا على إباحة ما تعملونه وتعلمونه من السماع المشتمل على ما لا يخفى؟ فيا سبحان الله! كيف ضلت العقول والأفهام؟.
وأعجب من هذا كله: الاستدلال على إباحته بما سمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحداء المشتمل على الحق والتوحيد! وهل حرم أحد مطلق الشعر وقوله واستماعه فكم في هذا التعلق ببيوت العنكبوت؟.
وأعجب من هذا: الاستدلال على إباحته بإباحة أصوات الطيور اللذيذة وهل هذا إلا من جنس قياس الذين قالوا: 2:275 {إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا} وأين أصوات الطيور إلى نغمات الغيد الحسان والأوتار والعيدان وأصوات أشباه النساء من المردان والغناء بما يحدو الأرواح والقلوب إلى مواصلة كل محبوبة ومحبوب وأين الفتنة بهذا إلى الفتنة بصوت القمرى والبلبل والهزار ونحوها؟.
بل نقول: لو كانا سواء لكان اتخاذ هذا السماع قربة وطاعة تستنزل به المعارف والأذواق والمواجيد وتحرك به الأحوال بمنزلة التقرب إلى الله بأصوات الطيور ومعاذ الله أن يكونا سواء.
والذي يفصل النزاع في حكم هذه المسألة: ثلاث قواعد من أهم قواعد الإيمان والسلوك فمن لم يبن عليها فبناؤه على شفا جرف هار.
القاعدة الأولى:
أن الذوق والحال والوجد: هل هو حاكم أو محكوم عليه فيحكم عليه بحاكم آخر أو ويتحاكم إليه؟.
فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة حيث جعلوه حاكما فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع وفيما هو صحيح وفاسد وجعلوه محكا للحق والباطل فنبذوا لذلك موجب العلم والنصوص وحكموا فيها الأذواق والأحوال والمواجيد فعظم الأمر وتفاقم الفساد والشر وطمست معالم الإيمان والسلوك المستقيم وانعكس السير وكان إلى الله فصيروه إلى النفوس فالناس المحجوبون عن أذواقهم يعبدون الله وهؤلاء يعبدون نفوسهم.
ومن العجب: أنهم دخلوا في أنواع الرياضات والمجاهدات والزهد ليتجردوا عن شهوات النفوس وحظوظها فانتقلوا من شهوات إلى شهوات أكبر منها ومن حظوظ إلى حظوظ أحط منها وكان حالهم شهوات نفوسهم في الشهوات التي انتقلوا عنها أكمل وحال أربابها خير من حال هؤلاء لأنهم لم يعارضوا بها العلم ولا قدموها على النصوص ولا جعلوها دينا وقربة ولا ازدروا من أجلها العلم وأهله والشهوات التي انتقلوا إليها جعلوها أعلى ما يشمرون إليها فهي قبلة قلوبهم فهم حولها عاكفون واقفون مع حظوظهم من الله فانون بها عن مراد الله منهم الناس يعبدون الله وهم يعبدون أنفسهم عائبون على أهل الحظوظ والشهوات ومزدرون لهم وهم أعظم الناس حظوظا وإنما زهدوا في حظ إلى حظ أعلى منه وإنما تركوا شهوة لشهوة أحط.
فليتدبر اللبيب هذا الموضع في نفسه وفي غيره فكل ما خالف مراد الله الديني من العبد فهو حظه وشهوته مالا كان أو رياسة أو صورة أو حالا أو ذوقا أو وجدا.
ثم من قدمه على مراد الله فهو أسوأ حالا ممن عرف أنه نقص ومحنة وأن مراد الله أولى بالتقديم منه فهو يتوب منه كل وقت إلى الله.
ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله فإن الأذواق مختلفة في أنفسها كثيرة الألوان متباينة أعظم التباين فكل طائفة لهم أذواق وأحوال ومواجيد بحسب معتقداتهم وسلوكهم.
فالقائلون بوحدة الوجود لهم ذوق وحال ووجد في معتقدهم بحسبه والنصارى لهم ذوق في النصرانية بحسب رياضتهم وعقائدهم وكل من اعتقد شيئا أو سلك سلوكا حقا كان أو باطلا فإنه إذا ارتاض وتجرد: لزمه وتمكن من قلبه وبقي له فيه حال وذوق ووجد فنذوق من توزن الحقائق إذن ويعرف الحق من الباطل.
وهذا سيد أهل الأذواق والمواجيد والكشوف والأحوال من هذه الأمة المحدث المكاشف عمر رضى الله عنه لا يلتفت إلى ذوقه ووجده ومخاطباته في شيء من أمور الدين حتى ينشد عنه الرجال والنساء والأعراب فإذا أخبروه عن رسول الله بشيء لم يلتفت إلى ذوقه ولا إلى وجده وخطابه بل يقول: لو لم نسمع بهذا لقضينا بغيره ويقول: أيها الناس رجل أخطأ وامرأة أصابت فهذا فعل الناصح لنفسه وللأمة رضي الله عنه ليس كفعل من غش نفسه والدين والأمة.
القاعدة الثانية:
أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق أو باطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه وتعرض عليه وتوزن به فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول وما أبطله ورده فهو الباطل المردود ومن لم يبن على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله: فليس على شيء من الدين وإن وإن وإنما معه خدع وغرور24:39 {كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}.
القاعدة الثالثة:
إذا أشكل على الناظر أو السالك حكم شيء: هل هو الإباحة أو التحريم؟ فلينظر إلى مفسدته وثمرته وغايته فإن كان مشتملا على مفسدة راجحة ظاهرة فإنه يستحيل على الشارع الأمر به أو إباحته بل العلم بتحريمه من شرعه قطعي ولاسيما إذا كان طريقا مفضيا إلى ما يغضب الله ورسوله موصلا إليه عن قرب وهو رقية له ورائد وبريد فهذا لا يشك في تحريمه أولو البصائر فكيف يظن بالحكيم الخبير أن يحرم مثل رأس الإبرة من المسكر لأنه يسوق النفس إلى السكر الذي يسوقها إلى المحرمات ثم يبيح ما هو أعظم منه سوقا للنفوس إلى الحرام بكثير؟ فإن الغناء كما قال ابن مسعود رضي الله عنه هو: رقية الزنا وقد شاهد الناس: أنه ما عاناه صبي إلا وفسد ولا امرأة إلا وبغت ولا شاب إلا وإلا ولا شيخ إلا وإلا والعيان من ذلك يغني عن البرهان ولاسيما إذا جمع هيئة تحدو النفوس أعظم حدو إلى المعصية والفجور بأن يكون على الوجه الذي ينبغي لأهله من المكان والإمكان والعشراء والإخوان وآلات المعازف: من اليراع والدف والأوتار والعيدان وكان القوال شادنا شجي الصوت لطيف الشمائل من المردان أو النسوان وكان القول في العشق والوصال والصد والهجران.
ودارت كؤوس الهوى بينهم ** فلست ترى فيهم صاحيا

فكل على قدر مشروبه ** وكل أجاب الهوى الداعيا

فمالوا سكارى ولا سكر من ** تناول أم الهوى خاليا

وجار على القوم ساقيهم ** ولم يؤثروا غيره ساقيا

فمزق منهم قلوبا غدت ** لباسا عليه يرى ضافيا

فلم يستفيقوا إلى أن أتى ** إليهم منادي اللقا داعيا

أجيبوا فكل امرىء منكم ** على حاله ربه لاقيا

هنالك تعلم من حمأة ** شربت مع القوم أم صافيا

وبالله لابد قبل اللقا ** سنعلم ذا إن تك واعيا

لا بد تصحو فإما هنا ** وإما هناك فكن راضيا

فصل:
وإذا لم يكن بد من المحاكمة إلى الذوق فهلم نحاكمك إلى ذوق لا ننكره نحن ولا أنت غير هذه الأذواق التي ذكرناها.
فالقلب يعرض له حالتان: حالة حزن وأسف على مفقود وحالة فرح ورضى بموجود وله بمقتضى هاتين الحالتين عبوديتان.
وله بمقتضى الحالة الأولى: عبودية الرضاء وهي للسابقين والصبر وهي لأصحاب اليمين.
وله بمقتضى الحالة الثانية: عبودية الشكر والشاكرون فيها أيضا نوعان: سابقون وأصحاب يمين فاقتطعته النفس والشيطان عن هاتين العبوديتين بصوتين أحمقين فاجرين هما للشيطان لا للرحمن: صوت الندب والنياحة عند الحزن وفوات المحبوب وصوت اللهو والمزمار والغناء عند الفرح وحصول المطلوب فعوضه الشيطان بهذين الصوتين عن تينك العبوديتين.
وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بعينه في حديث أنس رضي الله عنه: «إنما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت ويل عند مصيبة وصوت مزمار عند نعمة».
ووافق ذلك راحة من النفس وشهوة ولذة وسرت فيها تلك الرقائق حتى تعبد بها من قل نصيبه من النور النبوي وقل مشربه من العين المحمدية وانضاف ذلك إلى صدق وطلب وإرادة مضادة لشهوات أهل الغي وأهل البطالة ورأوا قساوة قلوب المنكرين لطريقتهم وكثافة حجبهم وغلظة طباعهم وثقل أرواحهم وصادف ذلك تحريكا لسواكنهم وانقيادا للواعج الحب وإزعاجا للنفوس إلى أوطانها الأولى ومعاهدها التي سبيت منها والنفوس الطالبة المرتاضة السائرة لابد لها من محرك يحركها وحاد يحدوها وليس لها من حادي القرآن عوض عن حادي السماع.